آه ... لـو أعـود
في ليلة لا تسمع فيها إلا صوت الرعد القاصف ، وهيجان الريح المرعب .
في ليلة انطفأت فيها الأنوار وأظلم البيت وانعدمت الكهرباء . في ليلة
ممطرة باردة . في ليلة اسودَّ ليلها وغابت نجومها . في ليلة حرك رعبها قلبي
، وهز بردها جسمي ، لا أرى مد يدي ، ظلام حالك وجو مرعب ، أغلقت شباك
غرفتي لأقلل وحشتي ، أنفاسي تتقطع في صدري ، لا أحد حولي ، ولا أمي ولا أبي
، ولا أختي ولا أخي ، وحيداً فريداً مرعوباً خائفاً ، لا أستطيع فتح عيني
خوفاً من مصير لا أعلمه ينتظرني .
وفجأة وإذا بخفقات تزيد ، ونبض دمي يعلو ، فما شعرت إلا وشيء يكتم
أنفاسي ، صحت بأعلى صوتي ، ضاق نَفَسي ، بردت أطرافي ، هملت يداي ، ناديت
يا إخوتي أصدقائي أغيثوني ، ما هذا الذي داهمني آتوني بطبيبي ، بل بصديقي
وأخي وحبيبي ، لكن واحسرتاه .. واحسرتاه ... أصيح بأعلى صوتي فلا أسمع سوى
صدى ندائي يتردد في أرجاء غرفتي المظلمة .
قلبي يخفق بأعجوبة ، كأني أتنفس من خرم إبرة . أيقنت عندها أنه جاء
يطلبني ، توسلت إليه ليمهلني لينظرني ولو ساعة من نهار ، لكن دون جدوى ،
كان شديداً غاضباً مني ، عيناه تحكي حقده عليَّ ، رفض توسلي إليه ، قال
بأعلى صوته : ألم تعرفني ؟ ألم تسمع بي ؟ قلت : بلى ... أنتَ من جاء ليغمض
عيني ويلفني بأكفاني ، بل ويبعدني عن أهلي وأحبابي ، أنت من جاء ليخطفني من
بين أشرطتي وقنواتي ، ويدمر تسليتي بألعابي .
ردَّ بصوت مخيف : إنك راحل ، وإلى مطار تعرفه مسافر . زادت آلامي ، وحُبست في جوفي أحرفي قبل كلماتي .
انتهرني قائلاً لِمَ تنساني ، لِمَ تنساني ....
ارتجت كلماتي وخانني لساني ، ما فكرت يوماً أنك تطلبني ، ما فكرت
يوماً أنك تطرق بابي لتعيدني لصوابي ، وتغلق صفحة حياتي ، وتقطع استمتاعي
بشبابي .
عندها تذكرت أنها صيحات فراق ، وآلام وداع ، أودع الدنيا راحلاً إلى
مطار أرضه غير مرصوفة ، وسادته التراب ، ومستقبلوه الدود ، وغطاؤه اللحود ،
برده شديد يفتك العظام ، يقطع الأوصال ، يمحو الملامح والشباب ، وتسيل منه
العينان على الخدان ، ويتدلى منه اللسان ، نداؤه لا يُسمع ، وتوسله لا
يُجاب ، إذاً قد أصبح بينه وبين الدنيا حجاب ...
صحتُ بأعلى صوتي : آهٍ ... لو أعود .
سحبت جسمي وأسندت ظهري على جدار غرفتي المرعب وأنا أشعر بالوهن
والمرض يدبُّ إلي . هل هو الموت؟ هل انتهت أيامي وجاء لقائي بربي ؟ حزنت
... بكيت ... رفعت صوتي , أيقنت أن لا أحد يسمعني . شبح الموت يتراءي أمام
ناظري , تدحرجت دموعي على خدي , خوفاً وهلعاً أن أفارق الحياة وأنا في
ريعان الشباب . آهات وآلام تحفز دموع الندم , لتقول لي:كم من متعة
استمتعتها ,وشريط غناء سمعته , وصلاة تكاسلت عنها , ارتعش لساني وخرجت
كلماتي : بأي وجه أقابل ربِّي ؟ كيف أعتذر وقد خنته ؟
هل سيعفو عني أم سيلقي بي غير مبالٍ إلى النار؟ الأسئلة الملحة
تطاردني , والحسرة والندم ينهشان قلبي . سأهرب ولكن إلى أين ؟ الدنيا كلها
لن تخفيني ممن يطاردني , لساني يلهث يردد رحماك ربِّي ... إلهي أتوسل إليك
أمهلني لازلت في ريعان شبابي , سفينة حياتي تتحطم على صخرة النهاية . الموت
يدكها .. يحطمها .. يكسرها بشراسة كأن بينه وبينها عداوة ... رحماك ربي .
وما هي إلا لحظات وإذا بباب البيت يفتح مبشراً بوصول أهلي , فرحت
فرحاً لا يوصف , استجمعت أنفاسي ودَّبت الحياة لأعضائي , تحرك لساني ,
ناديتهم بأعلى صوتي , وهو يطاردني جاثم على صدري , أمي الحبيبة أدركيني ...
حبيبك يغادر الدنيا , تودع آخر أنفاسه الحياة . أمي الحبيبة أدركيني ...
حبيبك أنفاسه محجوزة , ومن الموت مفزوعة , أمي الحنون أين أنتِ عني ؟ أين
حنانك مني؟ بل أين حبٌّك لي؟ أماه امنعيني ومن الموت أجيريني .. حبيبك يموت
... أماه مُدِّي لي يدك اعلق فيها آخر أنفاس الحياة . أماه مُدِّي لي يدك
أقبِّلها .. أودعها ... أشمّ فيها رائحة المحبة . أمي الحبيبة سامحيني كم
تطاولت يوماً عليك .
أماه إنها لحظات الوداع وزفرات الفراق . دنت مني أمي ودموعها تكاد
تغرقني . نادتني حبيبي حياتي , أفديك بنفسي , وضعتْ رأسي علي حجرها ,
وأمسكت يدي بيدها , بكاؤها يقطع قلبي ويزيدني ألماً فوق ألمي . صحت : آه آه
يا أماه من شيء يقطع قلبي , يمزق أعضائي , يجري مع دمي , بل يا أماه يكسر
عظامي .. آه لو تعلمين .. إنه ألم شديد وفراق إلى مدى بعيد .. زاد بكاؤها
ورفعت يديها إلى السماء تدعو إلهي : أمهل حبيبي ليتوب , ليعود . إلهي لا
تخيب رجائي فيك .
مددت يدي لأختي ... لأخي ... لأبي ... تعلقتُ بهم .. وداعاً
أحبَّتي.. علا بكاؤهم , وزاد أساهم, يرون آلامي لا تُوصف , تعجز عن وصفها
الأقلام , ويقف عنها عاجزاً الكلام .. جبال على صدري , وهموم تثقلني ..
إلهي من يفرِّج همي وينفِّس كربتي .. اشتد نزعي , ضاق والله بها صدري ..
ينادونني قل لا إله إلا الله .
وذاك يقول احملوه للمستشفى لازال فيه حياة . حُملت للمستشفى,
واستقبلت بحفاوة , ووضعت بين الأجهزة في غرفة الإنعاش .. هذا بإبرة وذاك
بأكسوجينه , وآخر ينعش بضربات القلب . حاولوا ثم حاولوا . لكن لم يستطيعوا
انتشالي من بين فكي الموت, لقد شدَّ عليَّ بأسنانه وشدَّ علي بأضراسه .
وبعد ساعات حار الطبيب بعلمه , وانثنى منكساً رأسه معلناً أمام
الموت فشله . خرج لأهلي, دموعه على خده قابضاً يده . تعالوا لتحضروا وفاته .
دخلوا الغرفة كلهم , ولساني يهذي بأمور لا أشعر بها . حكيت لهم قصة حياتي ,
بشريط مسجل على لساني , كنتُ مظهراً التزامي وأمامهم مبتعداً عن الملهيات
والأغاني , وإذا بهم يتفاجئون بالحقيقة المرَّة . انكشف الغطاء وبدأ الزيف
والافتراء . حقيقة مُرة وكذبة كبيرة , عشت فيها سنين . تذكرت عندها كلاماً
لسفيان الثوري : أكبر خيانة أن يخونك لسانك عند الموت فلا ينطق بها . أتعرف
ما هي ؟ إنها الشهادة , وفجأة تجمع الأطباء حولي واشتد نزعي , وصِحْتُ
بأعلى صوتي : آه لو أعود .من منكم يزيدني من عمره ساعة .. دقيقة .. ثانية ؟
لأكتشف الحقيقة وأحطم زيف الكذبة ,كل منهم ودمعه ينهال على خديه قابضاً من الحزن يديه .
وفجأة وإذا بأجهزة الأطباء تضطرب وتخفق بسرعة , هوت كلها إلى مؤشر
الصفر معلنة النهاية , فدقت أجراسها خطراً , وعلا صوتها منذراً , وانطفأت
كلها وفاضت معها روحي . ورأى الكل مصرعي بل نهاية حياتي وبداية قيامتي ،
خرج الجميع من الغرفة وتركوني وحيداً فريداً في غرفة باردة , تركوني مع
أيدٍ غريبة تقلبني وتلفني بأثواب . ربطوا بها يدي , وشدوا بها رأسي ,
واستدعوا موظف الثلاجة ليحملني على عربته وحيداً لا مرافق لي ، تركني أهلي
كأنهم خائفون مني مستوحشون من حالي ، لا جرأ أحد منهم على لمسي ، أدخلت
الثلاجة وفتحت لي أبوابها , حملني اثنان وعن العربة أنزلوني , وفي الدرج
الأول تركوني , مكان ضيق كأنه لحد .
أغلقوا علي إغلاقاً محكماً , ثم أقفلوها خارجين و إلي أعمالهم
عائدين , أطفئوا الأنوار , زاد برد الثلاجة , كل ما فيها أناس صامتون ,
جيران لا يتكلمون, لا نفس فيسمع , ولا داعي فيجاب ,كنت أمر بقرب هذا المكان
لا أستطيع النظر إليه خوفاً منه وها أنا اليوم أودع فيها , يالها من نهاية
, وما هي إلا لحظات وإذا بأبواب تُفتح , ضجيج وأصوات عالية , ومن بينهم
صوت يقول : أنا أغسله , وآخر أنا أكفنه .
أخرجوني من درجي ووضعوني على مكان غسلي , كأنهم خائفون مني , خلعوا
ملابسي وستروا عورتي , صبوا الماء فوق رأسي وغسلوني , قرَّبوا الأكفان
ونشروها ثم طيَّبوها , حملت بين أيديهم ألقوني بينها , بدأوا بتغطية وجهي ,
أوثقوني بالأربطة , ما أشده وأظلمه من غطاء , قبَّلني أبي وأخي , واستدعيت
أمي فلم تتمالك نفسها , حنت رأسها عليَّ وقبَّلتني .
تركوني في ناحية المسجد وحيداً , انتهت الصلاة وتداعى أحبتي :
إلينا بعبد الله فاحملوه وللصلاة قرِّبوه , حُملت بين الأيدي , ورفعت على
الأعناق صلى الناس وخرجوا.
حُملت على الأكتاف تتبعني الدعوات : اللهم ثبَّته عند السؤال , أين
أصبح أصحابي يا أحبابي , دعوني معكم ولو ليلة , أترمون بي ؟! قد كنت لكم
خادماً أخاً صادقاً , أفي حفرة تودعونني ؟ ضاعت هداياي لكم وخدماتي ,كم
ليلة سامرتكم أضحكتكم صدق فيَّ حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم , حديث قد
طرق سمعي لكني لم أعره بالاً , تذكرت قوله صلى الله عليه وسلم : (( إذا
وضعت الجنازة واحتملها على أعناقهم , فإن كانت صالحة قالت : قدِّموني
قدَّموني , وإن كانت غير صالحة قالت : يا ويلها أين تذهبون بها , يسمع
صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها لصُعق )) [ رواه البخاري والنسائي
والبيهقي وأحمد ] .
تنادي جنازتي : دعوني ... دعوني ... أعرف ما أمامي , إنها أشرطتي وأفلامي, أنزلوني ... أنزلوني .
أما تسمعون ندائي ... لا أحد يبالي ... وضعوني على شفير القبر
وحافته , أرى قبري يُحفر أمامي . يا أبي أتحفر لي لتواريني ، أنظر إلي قبري
كأني أعرفه موحش , مظلم , مقفر. آه ... يا إلهي ما أوحشة , طين وتراب ,
صخور كبيرة تكتم الأنفاس ، هاهم انتهوا وللطين قربوا , نادوا إلينا
بالجنازة , حملها الأقربون مسرعين ينتحبون , بكاؤهم يزيد يعلمون أني مغيب
إلى مدى بعيد , أنزلوني , استقبلني أبي وأخي الأكبر , وسدُّوا لي التراب ,
وضعوا جنبي بين اللحود . عندها ودَّعت الدنيا . وداعاً أيتها الشمس , آه
... أيها الظلام , حلوا رباط أكفاني , قبَّلني أبي ودعا لي , نادوا باللحود
حجارة كبيرة وضعوها فوق رأسي على رجلي وغطوا جسدي , أصيح فلا مجيب , أيها
الناس أغلقتم منافذ الهواء , فإذا بالنداء لا يقرع إلا آذاناً صماء . زادوا
علي التراب , تراب فوق تراب , الكل يحثو حتى ردموا الحفرة وأغلقوا معها
آخر أنفاس الحياة , تهيأوا للرحيل..
ذهبوا وأبقوني وحيداً , ذهبوا وتركوني أسامر الدود , استقبلني القبر
بضمته , واللحد بغمته , أخذ التراب ينهال على وجهي , كفى أيها المستقبلون,
أهكذا تستقبلون ضيفكم: ردَّ القبر بصوت مرعب : أما سمعت في الدنيا ندائي ((
ما من يوم يطلع فجره إلا وينادي القبر : أنا بيت الظلمة , أنا بيت الوحشة ,
أنا بيت الدود , اسمع إلى ترحيبي : إذا وُضع العبد الفاجر في جوفي قلت له :
لا أهلاً ولا مرحباً , أما والله قد كنت أبغض من يمشي على ظهري , إلي فقد
وليتك اليوم فسترى صنيعي بك . فأضمه ضمة حتى تختلف أضلاعه , ثم يوكل به
سبعون تنيناً ينهشونه ويخدشونه حتى يفضى به إلى الحساب )) [ كما في سنن
الترمذي ] .
هذا هو ندائي أما سمعت به ؟! نعم قد سمعته وطرق أذني , ولكني
تباعدت اللقاء بل تناسيته . أمهلني أيها القبر لأعود . انتهرني قائلاً :
تعود , كلا قد فات الآوان .
عندها دبَّ الدود على وجهي وبدأ يأكل أكفاني , صحت بأعلى صوتي : آه . آه لو أعود . آه . آه لو أعود .
استيقظ أبي وفتح باب غرفتي : بُنيّ ما بك ؟ أبي ... أمي ... آه لو أعود .
بنيَّ من أين تعود ؟ أنت في البيت , تعلقت به يا أبي أنقذني , أبعد الدود عن وجهي.
بنيَّ لا تخف أنت في بيتك , تجمع إخواني أنا في صيحة واحدة : آه لو أعود . أضاءوا الأنوار وإذا بي بينهم ..
تلمست أيديهم , عندها أدركت أنني لازلت على قيد الحياة .
آه يا لله ! يا له من حلم ... ما أبشعه , بل وأوحشه , قد هزَّ كياني
أرعبني ومن الآخرة أدناني , جلست على فراشي , ها أنت يا عبد الله في مهلة
إذاً فاعمل .
تذكرت الربيع بن خيثم وقبره : حفر له قبراً داخل بيته فكان إذا
مالت نفسه إلي الدنيا نزل في قبره , وإذا ما رأى ظلمة القبر ووحشته صاح {
رَبِّ ارْجِعُونِ } فيسمعه أهله فيفتحون له , وفي ليلة نزل قبره وغطى
بغطائه . فلما استوحش داخله نادى { رَبِّ ارْجِعُونِ } فلم يسمع له أحد .
وبعد زمن طويل , سمعته زوجته ، فأسرعت إليه وأخرجته . فقال عند خروجه : (
اعمل يا ربيع قبل أن تقول رب ارجعون فلا يجيبك أحد ) [ صلاح الأمة في علو
الهمة ]
عرفت أنه لا طريق للنجاة إلا طريق الاستقامة .
كسرت أشرطتي , وحرقت مجلاتي , جددت استقامتي البالية , قطعت حبل كل ودٍّ بزملائي القدامى, واتجهت إلى ربي : إليك ربي , إليك ربي .
فكلما نويت بمعصية تذكرت تلك الرحلة التي رحلتها , فوالله بعدها ما هممت بمعصية ..
اللهم لا تجعلنا من النادمين ، الخاسرين و اجعلنا من الذين يحاسبون أنفسهم قبل أن يُحاسبوا و يسّرنا إلى عمل صالح ثم اقبضنا عليه.
اللهم آمين.